كتب- عصام فؤاد:
"تأجيل الانتخابات الرئاسية في ساحل العاج"، خبر اعتادت وكالات الأنباء إذاعته منذ نحو خمس سنوات، ورغم اختلاف المبررات التي يستند إليها التأجيل في كل مرة، إلا أن الهدف من ورائها دائمًا واحد، وهو استبعاد الأغلبية المسلمة عن استلام حكم البلاد أو حتى المشاركة في تسييره.
ويستحق مسلمو ساحل العاج الاعتذار مرتين، الأولى حين تركهم العرب والمسلمون فريسة لعمليات التنصير والتذويب القهري للهوية الإسلامية برعاية الاستعمار الفرنسي الكاثوليكي، ثم تجاهلوا المذابح التي راح ضحيتها آلاف المسلمين في عهد الرئيس الحالي لوران جباجبو.
والثانية حين انساق الإعلام العربي وراء الادعاءات الغربية ضد المسلمين، والتي وصفتهم بالمتمردين حين اضطروا لرفع السلاح لوقف عمليات القتل الدائرة في صفوفهم على الهوية، ولتحقيق أبسط حقوقهم المدنية والسياسية في أوطانهم.
أغلبية مضطهدة
ويشكل المسلمون حوالي 60% من عدد سكان ساحل العاج البالغين نحو 20 مليون نسمة، ويستقر غالبيتهم في الشمال، ورغم كونهم الأغلبية في البلاد، إلا أنهم لاقوا أبشع صور الاضطهاد؛ سواء في دينهم أو أموالهم وأنفسهم، منذ سقوط دولة القائد المسلم ساموري توري، ودخول الاحتلال الفرنسي أواخر القرن التاسع عشر.
وبعد استقلال البلاد عام 1960م، اختلفت صور الاضطهاد من حيث اللين والشدة، فاقتصرت فترة حكم الرئيس الأول للجمهورية هوفي بوانيه على الحرب الدينية ضد الإسلام الصحيح، وكان بوانيه عميلاً فرنسيًّا بامتياز، مهمته تأمين مصالح باريس السياسية والاقتصادية وحتى العسكرية، وقبل ذلك نشر الكاثوليكية التي تحمل فرنسا رايتها وترعى شئونها.
وتنامى الوعي السياسي للعاجيين؛ خاصة بعد سقوط الشمولية مع انهيار الاتحاد السوفيتي، ما أعقبه تحركات شعبية ومظاهرات طلابية، لطلب إقرار الديمقراطية وإجراء انتخابات رئاسية تعددية.
وأعلن بوانيه الاستجابة للرغبات الجماهيرية وإجراء انتخابات رئاسية نهاية 1990م، ولكي يواجه المنافسين الأقوى أستاذ التاريخ د. لوران جباجبو رئيس الجبهة الشعبية الإيفوارية ذات التوجهات الاشتراكية، ورئيس البرلمان كونان بيديه؛ قام باستحداث منصب رئيس الحكومة، وعهد به إلى المسلم الشمالي حسن أوطارا الذي كان حينها نائب رئيس صندوق النقد الدولي، وذلك ليضمن أصوات قبيلته الجيولا المسلمة ويكسب تأييد الشمال المسلم.
وبعد فوزه بالانتخابات أعطى بوانيه صلاحيات مطلقة لرئيس حكومته أوطارا، فاستغلها الأخير في عمل إصلاحات اقتصادية واسعة، واستغل موارد البلاد الطبيعية في تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وحازت ساحل العاج 40% من حصة إنتاج الكاكاو بالعالم، وارتفع معدل النمو إلى 6%، فيما بلغ متوسط دخل الفرد سنويًّا نحو 2000 دولار.
وبعد وفاة بوانيه سنة 1993م، دعمت فرنسا رئيس البرلمان الكاثوليكي كونان بيديه لتولي رئاسة البلاد، لحين إجراء الانتخابات التي أعلن نفسه مرشحًا لها، ولكي يتجنب الخسارة أمام الزعيم المسلم ورئيس الوزراء حسن أوطارا، ابتدع ما يعرف حاليًّا في الأدبيات السياسية بـ"الذاتية العاجية"، والتي لا تعطي الحقوق السياسية كاملة، إلا للمواطنين "أنقياء" الجنسية، والهدف هو استبعاد أوطارا من خوض الانتخابات الرئاسية بدعوى أن أمه تحمل جنسية بوركينا فاسو.
الانقلاب الأول
واستمر حكم بيديه ست سنوات عجاف، تدهورت فيها الأحوال الاقتصادية والاجتماعية خاصة بالشمال المسلم؛ وذلك نتيجة الفساد وتفشي المحسوبية وقمع المعارضة، فجاء الانقلاب الأول نهاية 1999م على يد رئيس أركان الجيش الجنرال روبرت جيه وبدعم شعبي كبير في الشمال والجنوب، ما أجبر بيديه على الهروب إلى باريس التي منحته حق اللجوء السياسي.
وشهدت البلاد في رئاسية جيه المؤقتة فترة هادئة عسكريًّا وساخنةً سياسيًّا، بما حفلت به من مناورات للتحايل على حقوق مسلمي الشمال في ترشيح حسن أوطارا، باستدعاء بدعة الذاتية العاجية من جديد، وهو ما تم انتخابات أكتوبر سنة 2000م، والتي شهدت تلاعبًا وتزويرًا فاضحًا، حتى يفوز جيه برئاسة ساحل العاج.
ولم يتول الرئاسة بعد الانتخابات سوى يوم واحد، قبل أن يدعو منافسه لوران جباجبو إلى انتفاضة شعبية، وقام بالتنسيق مع قيادات الدرك (الجيش العاجي) والشرطة لدعمه في إسقاط جيه وتنصيبه رئيسًا البلاد؛ وهو ما تم بسرعة ملحوظة مع دعم القوات الفرنسية التي بادر جباجبو لإعلان الولاء لبلادها.
وطالب الزعيم المسلم حسن أوطارا بإعادة الانتخابات التي تمت بعيوب دستورية، إلا جباجبو تحايل على الدعوة، ووعد المسلمين بإجراء تعديلات دستورية وإصلاحات اقتصادية، تمكن كافة العاجيين من خوض الانتخابات، وترفع المستوى المعيشي لأهل الشمال.
وحظيت وعوده بموافقات مسلمة، لم يستثمرها جباجبو في تحقيق الوحدة الوطنية، ولكنه تحايل للالتفاف عليها، ورفض إلغاء مبدأ الذاتية العاجية، ليستبعد أوطارا من الانتخابات التشريعية، خاصة بعد النجاح الكبير الذي حققه حزب التجمع الجمهوري بقيادة أوطارا في الانتخابات البلدية.
انفصال الشمال
وأمر جباجبو بتشكيل حكومة جديدة استبعد الشماليين منها، وكانت القاضية في سبتمبر سنة 2002م حين سرح أكثر من 800 جندي وصف ضابط من الجيش معظمهم من مسلمي الشمال؛ ما دفع الشماليين لإعلان العصيان والانقلاب.
ونجحوا في زمن قياسي من السيطرة على نصف البلاد، وأهم مدينتين وهما بواكيه وكورجوهو ذات الأغلبية المسلمة، وكانوا على وشك السيطرة على العاصمة ياماساكرو، إلا أن القوات الفرنسية حالت دون ذلك.
وقد أعلن قادة الانقلاب تشكيل جبهة سياسية أطلق عليها اسم الجبهة الوطنية لساحل العاج برئاسة جيوم سورو (مسيحي)، وإعلان الضابط (شريف عثمان) قائدًا للجناح العسكري للجبهة.
وطالب الشمال المسلم بتعديل الدستور خاصة المادة 35 بشأن هوية المرشحين، وإجراء انتخابات وطنية، يشارك فيها الجميع دون تمييز، مع وضع حد لسيطرة الجنوبيين على شئون البلاد، وتجاهل الأغلبية المسلمة.
وواجه جباجبو طلبات الشمال المسلم بمزيد من العنف والتنكيل، وعاونته القوات الفرنسية في ضرب القوات الشمالية، فيما شكل جباجبو ميليشيات عسكرية باسم (كتائب الموت)، من أفراد حرسه الخاص، وأبناء قبيلته (البيتي)، فارتكبت أبشع المذابح في صفوف المسلمين، وحاولت اغتيال الزعيم أوطارا، إلا أن أنصاره استطاعوا تهريبه ليحتمي بإحدى السفارات الغربية، بعد قتل نحو 50 مسلمًا من معاونيه.
فرنسا والصهاينة
وتكفلت باريس بإسكات صوت المجتمع الدولي، والحصول على قرار أممي بحفظ السلام في ساحل العاج مع حق التدخل العسكري إذا احتاجت ذلك، فيما تجاهل الإعلام ذبح المسلمين، ولم يهتم بتناول الأزمة العاجية، إلا لإبراز معاناة الجالية الفرنسية، التي بلغت نحو 20 ألف فرنسي؛ نتيجة تدهور الأوضاع الأمنية والاقتصادية.
وكان لضغط تلك الجالية الدور الأكبر في تحرك فرنسا لجمع أطراف النزاع على مائدة التفاوض، والاتفاق في مايو 2003م على هدنة عسكرية وتشكيل حكومة وحدة وطنية، يتولى المسلمون فيها رئاسة الوزراء وزارة الداخلية ووزارة الدفاع، مع إقرار رئاسة جباجبو حتى موعد الانتخابات الرئاسية في 2005م، التي يكون من حق جميع العاجيين خوضها.
ولم يرض أنصار جباجبو بالاتفاقية التي عدوها استسلامًا للشماليين، وتحايل الأخير على تشكيل الحكومة الوطنية، قبل أن يخرق وقف إطلاق النار في نوفمبر 2004م، حين قامت طائرتان حكوميتان بقصف مواقع القوات الشمالية وموقع تابع للقوات الفرنسية في مدينة بواكيه شمالي البلاد.
وصاحب قصف الموقع الفرنسي مسيرات جماهيرية لطلب طرد القوات الفرنسية، والتنديد بسياسة الرئيس الفرنسي جاك شيراك، فيما حمل المتظاهرون أعلامًا أمريكيةً وصورًا للرئيس الأمريكي جورج بوش.
وزاد من القلق الفرنسي نجاح الكيان الصهيوني في استمالة جباجبو، بعد إمداده بأسلحة عسكرية متقدمة، وايفاد خبراء صهاينة لتدريب قواته وحرسه الرئاسي، لضرب المسلمين في الشمال، فضلاً عن دور جهاز الموساد في تصفية وجهاء المسلمين وزعمائهم، حتى تبقى السيطرة لحلفائهم من الأقلية النصرانية، وللانتقام من مؤيدي حزب الله اللبناني المنتشرين بين الجالية اللبنانية في ساحل العاج، والتي تقدر بنحو 150 ألف شخص.
وكان الرد الفرنسي قويًّا ومباشرًا بقصف وتدمير قوة الجيش الجوية، والكشف عن مقر تنصت تابع للموساد، وطرد 46 خبيرًا صهيونيًّا عسكريًّا، مع رسالة شديدة اللهجة للحكومة الصهيونية بوقف العبث في ساحل العاج.
كما تم التنسيق مع البيت الأبيض لضمان "الحقوق" الفرنسية في ساحل العاج التي تعتبرها باريس قلعة الفرانكوفونية، على أن تؤمن فرنسا حاجة أمريكا الاقتصادية في البلاد، وتراعي مصالحها الحيوية في شرق ووسط إفريقيا.
ومهدت الجفوة مع فرنسا الطريق أكثر أمام الانتشار الصهيوني الذي تفشى في باقي المؤسسات من الزراعة إلى التجارة وحتى معاهد التكنولوجيا والأبحاث، ورفض جباجبو المحاولات الدولية للتهدئة، خاصة من دول الجوار التي يعيش قطاع كبير من شعبها على الأموال التي تحولها الأيدي العاملة في زراعة الحقول العاجية أو في صناعات البن والكاكاو.
وارتكن في تسليح قواته على الكيان الصهيوني والعصابات عابرة الحدود التي تذكي الصراعات المحلية والإقليمية في سبيل سرقة أحجار الماس وخامات النحاس والكوبالت واليورانيوم وتهريبها، مقابل توفير المرتزقة وشحنات سلاح لأطراف الصراع كافة، بما يضمن استمراره.
اتفاقية واجادوجو
وتعددت المؤتمرات والاتفاقيات بين جباجبو وقادة الشمال برعاية دولية وإقليمية، وكان الأخير يتحايل في كل مرة لنقض الاتفاق، وإيثار مصلحته الشخصية ومصالح القبائل النصرانية المهيمنة على السلطة والثروة والمناصب العليا في قوات الجيش والشرطة.
ومع تواصل الحرب الأهلية تيقن جباجبو من عجزه عن دحر جيش الشمال، فاستجاب للضغوط الإقليمية بوقف القتال وتوقيع اتفاقية بالعاصمة البوركينية واجادوجو نهاية عام 2007م، والتي تم بموجبها تنصيب جيوم سورو رئيسًا للوزراء، على أن يتم انسحاب المسلحين إلى ثكناتهم، ودمج جنود الشمال والجنوب في جيش وطني، تمهيدًا لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية في يونيو عام 2008م.
وتحايل جباجبو بكل الطرق لتعطيل الانتخابات، وواصل تشدده في استبعاد ما يقرب من 2 مليون عاجي مسلم من حق التصويت، بعد أن أدرك استحالة الاستجابة لمطالبه السابقة بإلغاء إدراج نحو 6 ملايين مسلم من الاقتراع بحجة أصولهم البوركينية، وذلك في سبيل تغيير المعطيات الحالية التي تؤكد أن الانتخابات القادمة لن تكون في صالحه.
وتعددت حجج التأجيل من موعد لآخر، حتى قام جباجبو أواسط فبراير الماضي بإقالة حكومة جيوم سورو وحل اللجنة الانتخابية، ما تبعه احتجاجات شعبية واسعة صاحبها اعتداء الجيش العاجي على المتظاهرين وإثخان صفوفهم بالقتلى والجرحى، قبل الإعلان عن تأجيل جديد للانتخابات التي كانت مقررة في شهر مارس الماضي.
وكشف وزير الدفاع نهاية الشهر عن حجة جديدة هي طلب نزع السلاح الكامل من جنود الشمال؛ الأمر الذي رفضه الشماليون، وأكدوا التزامهم بالاتفاق السابق الذي يقضي برجوعهم فقط إلى ثكناتهم حتى يتم إجراء الانتخابات قبل دمج من تنطبق عليه شروط التجنيد في الجيش الوطني العاجي.
تدهور اقتصادي
ويأتي عناد جباجبو في ظل تدهور شديد يكاد يعصف بالبقية من اقتصاد البلاد، خاصة مع انتشار الأمراض نتيجة القتل والتهجير؛ ما خفض إنتاج ساحل العاج من الكاكاو إلى 1.2 مليون طن فقط، أي نحو نصف الكمية المنتجة سابقًا، كما توقع صندوق النقد الدولي- قبل أسبوعين- انخفاض معدل النمو الاقتصادي لساحل العاج إلى 3% فقط؛ نتيجة الاضطرابات السياسية وتعرَّض بنية البلاد التحتية لخسائر كبيرة.
ورغم العداء الواضح من جباجبو للمعسكر الفرنسي، تنديده أكثر من مرة بعلاقاتها "الخبيثة مع بعض الدول الإفريقية، ورفضه انتشار القوات الفرنسية بدعم أممي للفصل بين القوات الحكومية والشمالية، إلا أن باريس ترفض التحرك بجدية لإقالته، وتفضل الاكتفاء ببعض المصالح، على أن يأتي رئيس شمالي أو زعيم مسلم يقضي على هيمنة الأقلية النصرانية على سلطات البلاد ومقاديرها.
كما يضمن التوتر الحالي بقاء القوات الفرنسية بحجة حفظ السلام؛ الأمر الذي تشتد إليه حاجة باريس التي يضطرها التوغل الأمريكي والتحرك الشعبي على إخلاء قواعدها العسكرية يومًا بعد يوم، وكان أقربها استرداد السنغال- يوم الرابع من أبريل الجاري- جميع القواعد التي كانت فرنسا تسيطر عليها في السابق.
فيما يغض المجتمع الدولي البصر عن مذابح المسلمين وتتجاهل الأمم المتحدة إجرام جباجبو؛ لارتباط أجندتها بمصالح الدول الكبرى والممولة، وتكتفي ببيان هزيل كل عدة أشهر لطلب الإسراع في الانتخابات، أو الإشراف على مفاوضات جديدة، يتعمد جباجبو نقضها والتهرب من شروطها.
ويبقى الحال في ساحل العاج على ما هو عليه، جنوب يحكمه الكاثوليك بالحديد والنار، وشمال مسلم يرفع راية المقاومة ضد محاولات تنصيره وتغيير هويته الإسلامية، ويطلب حقه الشرعي في إنهاء التمييز الديني ضد أبنائه، وفتح الطريق أمام مشاركتهم في إدارة شئون بلادهم ووطنهم.
ويظل الحاضر الغائب هو الوطن العربي والإسلامي الذي لم تشفع عنده ملايين المسلمين والجالية اللبنانية العربية في ساحل العاج؛ للتدخل ولو عبر القنوات السياسية والقانونية، لوقف نزيف مئات الآلاف من العرب والمسلمين، مفسحًا المجال أمام عدوه الصهيوني لتنفيذ مشروعه في اختراق إفريقيا، والانفراد بساحة جديدة يمارس فيها عداوته الأشد ضد الإسلام والمسلمين.