تناقضات هيكل وإلهامات الشمولية

 

بقلم: عصام فؤاد

ردود أفعال متابينة أفرزها حوار جريدة الأهرام مع الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل بعد دعوة الأخير إلى تجاوز نتيجة الاستفتاء السابق وما أعقبه من إعلان دستوري وتأجيل الترتيب للانتخابات التشريعية والرئاسية وصياغة البرلمان لدستور جديد، معللا ذلك بقوله: "أريد أن ألح في موضوع الاطمئنان والاستقرار والشعور بالأمن والراحة, فذلك لا يوفره مجرد إجراء انتخابات علي غير أساس, أو وضع دستور علي طريقة عرفناها مرات".

"وما يوفر الاطمئنان والاستقرار والشعور بالأمن والراحة – في رأي هيكل - أن ترسل هذه الكتل الجماهيرية بممثلين إلي مجلس من نوع ما.. تشاوري أو مؤقت أو تأسيسي, مجلس معترف به، وهو مجلس أمناء الدولة والدستور".

ولم يوضح كيفية اختيار مجلس أمناء الدستور أو المؤتمر الوطني وكيف ترسل هذه الكتل الجماهيرية بممثليها بطريقة غير الانتخابات المقررة في سبتمبر ويدعو هيكل لتأجيلها؟، ولا حتى كيف سيتوفر الأمان والاستقرار بمجرد اختيار مجلس الأمناء مع إطالة الفترة الانتقالية؟، رغم أن هيكل يعود في نهاية حواره فيؤكد أن الوضع الحالي طبيعي، ويقول "لكني أعرف أن تلك تجربة الثورة في كل عصر ومكان وتصنع مثل هذه الآثار غداة وقوعها, وأتفهم هذه الحيرة وهذه المخاطر إلي درجة الفوضي".

والحاجة للمجلس أو مؤتمر وطني جامع "ألا تظل المسألة طرفا يطلب وآخر يستجيب أو لا يستجيب, وحتي لا تظل الجماهير تشهد ويعجبها أو لا يعجبها", رغم أن هذه النقطة تحديدا من خصائص المرحلة الانتقالية التي يطلب هيكل إطالتها لسنتين أو ثلاث سنوات وربما أكثر.

ويعرج على مسألة الرئاسة فيوضح: أنه لا يجد حرجا في تسمية المشير طنطاوي رئيسا للدولة في هذه المرحلة الانتقالية, وإذا رأى المشير أن تكون رئاسة الدولة لمجلس رئاسي فليس من الصعب العثور علي عضوين فيه إلي جانب المشير طنطاوي مع استمرار مسئوليته عن وزارة الدفاع وعن المجلس الأعلى للقوات المسلحة والذي يمكن أن يتحول إلي مجلس أعلى للأمن الوطني".

ويصعب فهم اقتراح هيكل غير المتحرج، فلا طائل من وراء تسمية المشير رئيسا سوى مجاملة تاريخية، لاسيما وهو يقوم فعلا بمهام رئيس الدولة بهذه المرحلة الانتقالية، ويعود هيكل فيتحرج من اقتراح مجلس رئاسي انتقالي، ويجعله مرهونا بإرادة المشير "إذا رأى أن تكون رئاسة الدولة لمجلس رئاسي فليس من الصعب العثور علي عضوين فيه (خيالين مآتة) إلي جانب المشير طنطاوي مع استمرار مسئوليته عن وزارة الدفاع وعن المجلس الأعلى للقوات المسلحة".

ويعمل مجلس أمناء الدولة والدستور مع المجلس الرئاسي في التحضير لانتخابات جمعية تأسيسية, تطرح دستورا جديدا بدون برلمان، ما اعتبره "ضمانة كبري لسلامة وشرعية فترة الانتقال ذاتها".

وبالتأكيد الضمانة الحقيقية هي برلمان شعبي يضع دستور وطنه بطريقة ديموقراطية غير "التي عرفها هيكل مرات"، سواء الإعلانات الدستورية التي اعتمد عليها مجلس ثورة 23 يوليو حتى وضع دستور 1956م أو دستور الوحدة في مارس 1958م والدستور المؤقت في مارس 1964م وحتى دستور 1971م، بالإضافة لمشاركته بالصمت عن رفض مجلس قيادة الثورة مشروع دستور 1954م الأفضل في تاريخ مصر المعاصر، والذي شهد هيكل إجهاضه ورميه في صنايق القمامة وضرب العلامة القانونية السنهورى باشا بالحذاء؛ لإقرار ذلك الدستور نظام الجمهورية البرلمانية.

ويبدو أن تلك التجربة الديموقراطية هي ما يحث هيكل الجيش على تنفيذها حين اعتبر تجربة ثورة يوليو 1952م ملهمة لإدارة الفترة الانتقالية، وذلك حين علقت القوات المسلحة العمل بالدستور وحلت الأحزاب وجماعة الإخوان المسلمين وأجلت مشروع الديمقراطية، بدعوى توفير الأمن وتوعية المواطن قبل الانتخابات!!.

وإن تعجب فالأعجب أن الاقتراحات جاءت من شخص يؤكد في الحوار أنه "مراقب مهتم من بعيد" لمسار الثورة الحالية، فلما يقحم نفسه داخلها في هذا التوقيت؟!.

وبعد اكتساب بعض المصداقية ببيان بعض جرائم نظام مبارك، يشرك هيكل الشعب في المسئولية عن جرائمه "بتفوقه في صنع الطغاة"، ويرى أن "مبارك يحاسب علي غير الأساس الذي يجب أن يحاسب عليه, ويكون التعويض التلقائي عن ذلك بإساءة التصرف معه, والحديث إليه بفظاظة, ثم ينقل لنا أنه أغمى عليه في أثناء التحقيق معه, وأنه كرر القول أن الله كبير".

ويتابع: "في بعض اللحظات, وأنا رجل عرفت وتابعت وعارضت سياساته في وقتها, لم أتمالك نفسي من التعاطف مع مبارك كإنسان وكأب, وكزوج"، معتبرا أن الجرائم السياسية فقط هي التي يواجهها مبارك "ولا تدخل في نطاق النيابة العامة".

ويطلب هيكل محاكمة مبارك "بسلطة السياسة وبمنطق التاريخ الذي عرفه العالم كله, خصوصا تاريخ الثورات"، ويحصرها قائلا: "هناك ثلاث طرق وليس أربع: إما عقاب مباشر، فات وقته فيما أظن، أو محاكمة شعبية مفتوحة وإن كان ظني أن ذلك ليس وقتها, بإعتبار أن البلد ليست في حاجة إلي شاغل آخر عن المستقبل, وكذلك فإنه من الممكن تأجيل مثل تلك المحاكمة, وإحالتها إلي عهدة البرلمان القادم، وإما خروج بشروط".

وبحسب قواعد تاريخ هيكل فليس أمام الشعب سوى تأجيل محاكمة مبارك السياسية إلى البرلمان القادم والذي طالب بتأجيل انتخاباته، ما يعني تأجيل المحاكمة لما يزيد عن ثلاث أو أربع سنوات، أو السماح له بالفرار بشروط قد تكون تسليم ممتلكاته في مصر وإعتذار شفهي للشعب الطيب، رغم أن هيكل يعود فيناقض حديثه عن منطق تاريخ الثورات فيقول في جزء آخر من حواره: "وأنا أعرف من دروس التاريخ أن الثورات لا تتشابه ولا تتكرر, وأن كل ثورة لها طبائعها ومناخها وأحوالها, وأن الثورة المصرية الراهنة هي الأخري فريدة من نوعها".

ولم يكتم هيكل خلال الحوار شهوته في إظهاره كأحد رجال العالم العارفين ببواطن الأمور بدءً من عملية اغتيال بن لادن وحتى تحركات وخطط المجموعة الأوربية، وهو كلام في مجمله يحتمل الصواب أو الخطأ لغياب مصداقية المصدر، فضلا عن توافر دقته التي غابت حين حدد أنواع الفساد "في 3 قضايا أساسية: المالي والإداري، والاستراتيجي والسياسي، والمتعلق بجرائم إنسانية مثل التعذيب"، متجاهلا المسئولية عن الفساد الاجتماعي والأخلاقي، الذي يعاني من آثاره كل أفراد المجتمع، ولكنه ليس على أجندة الكاتب الكبير.

وأقول لهيكل: نعم الأجيال الجديدة هي التي تملك المستقبل، وبإذن الله تصنعه بعد أن قرأت تاريخها ووعت دروسه وعرفت أولوليات الوقت وواجباته، والتي ليس من بينها إلهامات انقلاب 52 أول المسئولين عن صنع الطغاة.

وسائل عملية لتفعيل التأريخ الهجري


  بقلم: عصام فؤاد
مسابقة قوامها سؤال واحد، طرحه برنامج تليفزيوني بإحدى الفضائيات على عشرات المواطنين بعدد من الدول العربية، والذين عجزوا جميعهم عن إجابة السؤال وهو: أي عام هجري سنستقبل؟!.

وإذا كان نجاح الغزو الثقافي الغربي في بلادنا أصبح من المعلوم بالضرورة؛ فإن الطرح المقابل هو كيفية مواجهته؟، وما الوسائل التي يمكن من خلالها تعقب آثار ذلك الغزو الثقافي واستبدال ما زرعه لخدمة أهدافه بأصولنا وقيمنا وخصوصياتنا الحضارية، وفي مقدمتها مسألة تفعيل التقويم الهجري وكيفية الاعتماد عليه فقط للتأريخ؟!.

فهو ليس فقط مجرد وسيلة لضبط الأحداث وقياس الزمن، ولكن يبقى التقويم ضرورة اجتماعية للإنسان منذ فجر التاريخ وفريضة حضارية لا غنى عنها لأية أمة من الأمم؛ فكان لكل منها تقويمها الخاص الذي تعتز به وتؤرخ بواسطته فقط أحداثها وأيامها، وتحدد أعيادها وشعائرها الدينية، وكان رجال الدين من كل أمة هم القيمين على التقويم، يحددون بداية شهوره وأطوالها وطبيعة سنينه وأحوالها.

وخلعت الأمم أسماء الآلهة الوثنية على أسماء شهورها وأيامها.. فنجد مثلاً شهور يناير وفبراير ومارس، أسماء لآلهة رومانية، وكذلك الأيام الأسبوعية تُسمى بأسماء آلهة تُعبد؛ فالأحد (صن داي) يوم الشمس، والاثنين (مون داي) يوم القمر وهكذا.

فجر التقويم الهجري
ولوعه بالخصوصية الحضارية للتقويم؛ رفض أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ربط تأريخ الأمة الإسلامية بأي من تقاويم الأمم المجاورة من يهود أو فرس أو رومان وغيرهم، وجمع مجلسه الاستشاري في السنة الثالثة من خلافته، وتحديدًا يوم الأربعاء 20 جمادى الآخرة من عام 17 هـ؛ ليعتمدوا التقويم الخاص بالأمة، بعدما ورده كتاب من أبي موسى الأشعري، عامله على البصرة، يقول فيه: (إنه يأتينا كتاب من أمير المؤمنين محله شعبان، فلا ندري أهو الذي نحن فيه أم الماضي؟).

واتفق المجلس على اتخاذ أول المحرم من السنة التي هاجر فيها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كبداية للتقويم الإسلامي، باعتبار أن تلك المناسبة كانت فرقانًا بين الحق والباطل وموعد إعلان قيام الدولة المسلمة.

وليس فقط الخصوصية الحضارية هي قيمة التأريخ الهجري، ولكن الفاروق أدرك مع أهمية وضع تقويم موحد للعالم الإسلامي أن يعتمد على القمر وليس على الشمس؛ لأنه يرتبط بالمواعيد والعبادات والمناسبات الإسلامية، وكذلك للدقة الربانية في التقويم القمري المرتبط بظواهر حسية ملموسة، مثل الشمس والقمر اللذين جعل الله في حركتهما دليلاً نعرف به السنين والحساب؛ مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً (12)﴾ (الإسراء).

وهو تقويم رباني قديم قدم البشرية، ليس من ابتداع أحد من الفلكيين، وليس للفلكيين سلطان على أسماء شهورها ولا على عددها أو تسلسلها أو أطوالها، ولا على طبيعة سنتها من حيث البسط والكبس، فقد اختاره الله سبحانه للتأريخ والتقويم، بل حدَّد أيضًا عدد الشهور بقوله: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ (التوبة: من الآية 36).

وذكر القرآن بعض الشهور مثل رمضان وأشهر الحج والأشهر الحرم، ومن أيام الأسبوع ذكر الجمعة والسبت، فيما توالى في صحيح السنة النبوية ذكر كل تلك الشهور والأيام.

لذا فهو يستحيل عليه الخطأ، وإن وقع الخطأ من جهة البشر فبإمكان أي إنسان أن يكتشفه في غضون يوم أو يومين، ويتم تصحيح العمل به تلقائيًّا؛ حيث يتميز بوجود دورة منتظمة لبدايات الشهور القمرية، تتكرر كل 8 سنوات.

كما أن بداية التقويم الهجري أكثر دقة من بداية التقويم الميلادي، الذي يختلف القائمون عليه إلى اليوم في موعد ولادة السيد المسيح عليه السلام بدقة، وما زال النصارى بمصر يستخدمون التقويم القمري في تحديد عيد القيامة (عيد الفصح).

ويلفت الكاتب محمد فودة- في إحدى بحوثه العلمية- إلى ما مر به التقويم الشمسي من أخطاء فلكية وحسابية، وهو ما زال بحاجة إلى التصحيح؛ فالخطأ يحتاج المتخصصون إلى قرون للكشف عن تلك الأخطاء المتراكمة.

ونالت التقاويم غير القمرية الكثير من عبث الملوك والقياصرة، كما حدث في التقويم الميلادي (اليولياني) الذي نقل يوليوس قيصر بداية السنة من شهر مارس إلى شهر يناير في سنة 45 ق.م، وقرَّر أن يكون عدد أيام الأشهر الفردية 31 يومًا والزوجية 30 يومًا عدا فبراير 29 يومًا، وإن كانت السنة كبيسة يصبح ثلاثين يومًا، وتكريمًا ليولوس قيصر فقد تم تسمية شهر كونتليس (الشهر السابع) باسم يوليو، وفي سنة 8 ق.م، تمَّ تغيير اسم الشهر الثامن ليكون أغسطس باسم القائد الذي انتصر على أنطونيو في موقعة أكتيوم سنة 31 ق.م.

ومن أجل مزيد من التكريم فقد زادوا يومًا في شهر أغسطس ليصبح 31 يومًا ق.م بأخذ يوم من أيام فبراير، وترتب على هذا التغيير توالي ثلاثة أشهر بطول 31 يومًا (7، 8، 9)؛ ما اضطرهم إلى أخذ اليوم الحادي والثلاثين من شهري سبتمبر ونوفمبر، ليُضافا إلى أكتوبر وديسمبر.

وقد حدث تعديل آخر في عهد الباب (غريغور الثالث عشر) الذي قام بإجراء تعديلات على التقويم اليولياني؛ حيث عالج الثغرات الموجودة في التقويم اليولياني، وقد عرف هذا التقويم باسم التقويم الغريغوري، وهو التقويم الذي يعمل به حاليًّا باسم التقويم الميلادي.

ساعة الزمن القمرية
ورغم أن علماء المسلمين استطاعوا اختراع نظام الساعة الفلكية القمرية الناطقة لضبط الزمن الهجري العالمي، والذي يتفق مع الرؤية الشرعية اليقينية للأهلة؛ وأن رؤية الهلال في بلد هي رؤية لبلاد المسلمين جميعًا، إلا أن العديد من الدول العربية والإسلامية يتجاهل التقويم الهجري ويعتمد كاملاً أو جزئيًّا على التأريخ الميلادي.

ومع تراخي الحكومات، وربما مشاركتها في مؤامرات الغزو الثقافي، كانت المهمة ملقاة على كاهل المجتمع لتقديم مقترحاته وإنجازها في سبيل الاحتفاظ بخصوصيتنا الحضارية في التأريخ بالهجرة.

علماء ومساجد
وقد يكون الدور الأهم هنا ما يحمله علماء الأمة وأئمة المساجد للتشديد على أهمية التأريخ بالهجرة، وهي المناسبة التي احتفى بها القرآن في عدة مناسبات، حتى إنه لم يفرد لها سورة منفصلة ليتوارد الحديث عنها في أوائل السور وأوسطها وأواخرها؛ لتكون حاضرةً باستمرار في أذهان المسلم؛ لما في الهجرة من دروس تحتاجها الأمة باستمرار، وفي مقدمتها أنها تذكر دائمًا بضرورة التخلي عن الباطل مهما كانت الصلة به والاعتصام بالحق مهما بعدت أراضيه، فضلاً عن أن ذكرى الهجرة تبقى دائمًا بارقة أمل تجدِّد الرغبة والعزم للتغيير والنهضة من جديد.

لذا وجب على العلماء وأئمة المساجد تولية موضوع التقويم الهجري جانبًا كبيرًا من جهدهم واهتمامهم عبر الخطب والدروس الدينية والكتب والأبحاث، مع أهمية أن يذكر الشيخ أو الإمام التواريخ في درسه بالهجري قديمًا وحديثًا، وربما يلجأ بداية لذكر الهجري والميلادي، حتى يعتاد السامعون على الحساب بالتقويم الهجري فيكتفي بذكره وحده.

دور الأسرة
ويمكن للآباء تفعيل التأريخ الهجري لدى الأطفال منذ الصغر بعدة وسائل، ومنها أن يتم حساب عمره بالهجري، وأن تحتفي الأسرة بيوم ميلاده في التقويم الهجري، فتقدم له في ذلك اليوم هدايا بسيطة؛ تعبيرًا عن سعادتها بمولده.

كما تجتهد الأسرة في ربط مناسبات الطفل بالهجرة؛ ففي يوم كذا من الهجرة دخلت المدرسة، وبيوم كذا حصلت على شهادة تقدير للتفوق، وفي تاريخ كذا تعلمت السباحة وغيرها، كما يسجل الطفل في ذهنه تواريخ الأحداث الأسرية بالتقويم الهجري، مثل يوم زواج والديه وأيام ميلاد الأسرة، وغيرها من مناسبات.

ويجب على الآباء إفراد الوقت للحديث عن المناسبات المهمة في ذاكرة الأمة بتواريخها الهجرية؛ سواء القديمة أو حتى الحديثة، فحرب 6 أكتوبر نعرِّفها للأبناء بأنها حرب العاشر من رمضان 1393هـ، وهكذا في بقية المناسبات التي نريد ترسيخ ذكراها عند الأطفال.

المدارس
وتتعدد وسائل المعلمين التي يمكن من خلالها تفعيل التأريخ بالهجرة بين الطلاب والتلاميذ، وفي مقدمتها ما رواه أحد المعلمين من أنه كان يكتب التاريخ الهجري على لوحة الفصل (السبورة) بخط واضح وكبير في اليمين، فيما يكتب إلى اليسار التاريخ الميلادي بخط أصغر وبالأرقام فقط.

وكان ذلك يفتح الحوار مع الطلاب: لما فعل ذلك؟ وبعد استثارة فضولهم ومعرفة آرائهم، يبين لهم أن التقويم الهجري أحد أركان ثقافتنا وديننا، فالله سبحانه حين تحدث عن الشهور قال: ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ (التوبة: من الآية 36)، كما أن أية محاولة للتغيير بالخطأ في ذلك التقويم عده الله من الكفر، حين قال: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ (التوبة: من الآية 37).

ومع التوضيح المتواصل، يشدد على ضرورة كتابة التقويم الهجري فوق ما يسلمونه من واجبات منزلية أو الامتحانات الشهرية وغيرها، مع إفراد وقت للتحدث عن المناسبات والأحداث المهمة بتاريخ الأمة حين تأتي ذكراها الهجرية.

المديرون ورجال الأعمال
أما المديرون ورجال الأعمال، فلهم إمكانياتهم أيضًا في تفعيل التقويم الهجري بين المحيطين بهم من موظفين أو عملاء، من خلال أن تكون المفكرات وبيانات التقويم الموجودة بالشركات (النتائج) تعتمد على التأريخ الهجري، مع مطالبة الموظفين بتدوين التاريخ الهجري قبل الميلادي في كل أوراق وأعمال الشركة وحتى في مراسلاتها مع العملاء أو أية جهات أخرى.

ومن الوسائل المهمة أيضًا أن تكون بداية العام الهجري هي موعد السنة المالية للشركة وزيادات الرواتب للموظفين، وأن تكون كذلك مناسبة تهنئة العملاء وطباعة مفكرات وأجندات تعتمد على التقويم الهجري فيما ترسله الشركة من هدايا، وكذلك أن تقدِّم المكافآت السنوية للموظفين في تواريخ ومناسبات هجرية مثل مكافأة رمضان والعيدين وغيرها.

وتبقى المقترحات السابقة هي الأقل في جهد الأمة المطلوب لتفعيل التأريخ الهجري، لما فيه من خصوصية حضارية نحتاجها اليوم لانبعاث جديد يعيد للأمة مكانها الطبيعي بين الأمم، والسؤال لكل منا: هل ستهتم من الآن فعلاً بالتقويم الهجري؟ وإن كنت صاحب تجربة سابقة أو مقترحات، فلا تحرمنا من نشرها.

ساحل العاج لمن؟!

23-12-2010


كتب- عصام فؤاد:

الأزمة التي شهدتها ساحل العاج مؤخرًا ربما يصنِّفها البعض على أنها خلافات ذات جذور دينية أو عرقية، مثل كثير من جبهات القتال في إفريقيا، إلا أن الرؤية الكاملة للمشهد تكشف الدور الأكبر لصراعات النفوذ الغربية، واتفاقاتها المصلحية في تشكيل الموقف كله.

وقد بدأت أحداث الأزمة الحالية حين أعلن لوران جباجبو، الرئيس العاجي المنتهية ولايته، رفضه الاعتراف بنتائج الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية يوم 28 نوفمبر الماضي، والتي قضت بفوز منافسه وزعيم المعارضة الحسن وطارا.

وأوعز جباجبو إلى المجلس الدستوري ليبطل نتائج الانتخابات بعدد من لجان التصويت الشمالية؛ حيث يتمركز المسلمون والمعارضة، ويعلن استمرار ولاية جباجبو الرئاسية؛ ليقوم الأخير بأداء اليمين الدستورية كرئيس للجمهورية يوم 4 ديسمبر الجاري، بالتزامن مع أداء وطارا اليمين نفسه، وإعلان بدء رئاسته لساحل العاج.

وفيما تعهد الجنرال فيليب مانجو، قائد القوات المسلحة، بالولاء لجباجبو، أعلن رئيس الوزراء جويلومي سورو استقالته من منصبه وتأييده مرشح المعارضة الفائز الحسن وطارا، وحذَّر- مع حلفاء وطارا- من احتمال أن تعود الحرب الأهلية إلى الاشتعال من جديد.

وبادر الرئيس الأمريكي باراك أوباما والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، ومن بعدهما الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، والاتحاد الإفريقي، إلى إعلان تهنئة وطارا باعتباره الفائز الشرعي، داعين جباجبو إلى تسليم السلطة بشكل سلس.

وأعلنت وزارة الخارجية الأمريكية فرض حظر على سفر مساعدي جباجبو، بعد حظر مماثل فرضه الاتحاد الأوروبي على سفر جباجبو وكبار مساعديه، وهددت الأمم المتحدة بفرض عقوبات دولية، مؤكدة أنها ستعزز قواتها بساحل العاج هناك، والبالغ عددها 10 آلاف جندي، فيما أكدت فرنسا أن من حقِّ قواتها هناك- نحو 950 جنديًّا- الرد في حال تعرضها لهجوم.

اتفاق مشبوه

اللافت هنا الاتفاق الأمريكي الفرنسي في منطقة تَعْرِف صراع النفوذ بين الدولتين منذ عدة سنوات؛ فباريس تعتبر ساحل العاج إحدى قلاع الفرانكوفونية المهمة في إفريقيا، وذلك منذ أن احتلتها نهاية القرن التاسع عشر.

بل إن فرنسا جعلت من ساحل العاج نموذجًا للاحتلال الفرنسي المعروف بشراسته في فرض الثقافة واللغة الفرنسية، وحتى تغيير القيم وإبادة اللغات والمعتقدات الدينية لأهالي الدول المحتلة، وذلك بكلِّ الطرق سواء بالسيف أو الذهب وبالمكر والخديعة؛ فهو احتلال "استيطاني" يتاجر بالبشر والعسكر وباللغة والحضارة والثقافة، وحتى العقائد في سبيل مصلحته.

وحين استتب الوضع للاحتلال الفرنسي عام 1900م، اتجه إلى المدارس الإسلامية لعلمنتها، ونشر البعثات التنصيرية والمدارس المسيحية؛ لوقف تنامي الدعوة الإسلامية عدوه الإستراتيجي بغرب إفريقيا، خاصةً وقد عَرفَتْ المنطقة الإسلام منذ القرن التاسع الميلادي، عبر التجار المسلمين الذين بهروا الأفارقة بأخلاقهم، قبل أن يشاركهم العمل الدعوي عدد كبير من الدعاة والمتصوفين والفقهاء الذين توافدوا؛ لنشر الفقه الإسلامي.

وشنَّت فرنسا حربًا عنيفة على الهوية الإسلامية، فيما أفسحت المجال أمام المنصِّرين بالغابات الاستوائية جنوب ساحل العاج، إلا أن ذلك وغيره لم يمنع انتشار الإسلام، لترتفع أعداد المسلمين حتى بلغت نحو 60% من السكان، وهم اليوم حوالي 12 مليونًا من عدد سكان ساحل العاج المقدر بنحو 20 مليونًا، في حين تتراوح نسبة النصارى بين 20%- 25% معظمهم كاثوليك، ويشكّل الوثنيون النسبة الباقية.

وتمكنت الكاثوليك من السيطرة على الجهاز الإداري للدولة حتى بعد الاستقلال عام 1960م، فيما ساعدت الرئيس الأول هوفي بوانييه عبر قواتها العسكرية إلى تقسيم البلاد إلى شمال يسكنه الأغلبية المسلمة، وهي تعمل في زراعة الكاكاو، وتنتهي مهمتهم عند بيعه في أبيدجان، وجنوب يسكنه الوثنيون والمسيحيون الذين سيطروا على مقاليد الأمور- مع الفرنسيين- بتشكيل الحكومات والأجهزة المحلية، وحتى رئاسة المصارف وتجارة وتصدير الكاكاو.

وتنوعت صور الاستفادة الفرنسية من البلاد؛ سواء الإستراتيجية أو الاقتصادية، بعد أن فُتحت أسواق ساحل العاج للمستثمرين الفرنسيين، فشكلوا نحو 60% من رجال الأعمال بالبلاد، وبنت المدن الاقتصادية على السواحل حتى يسهل نقل المواد اللازمة إلى باريس بأقل تكلفة، وخاصة محصول الكاكاو الذي تُنْتِج منه ساحل العاج نحو 40% من الإنتاج العالمي، فضلاً عن كونها مصدرًا رئيسيًّا للموز والبن والقطن وزيت النخيل والأناناس والمطاط والأخشاب، وغيرها من الصناعات!.

لعبة الانقلاب!

وبعد سقوط الشمولية مع انهيار الاتحاد السوفيتي، تضاعف نمو الوعي السياسي للعاجيين، وتتابعت التحركات الشعبية والمظاهرات الطلابية؛ لطلب إقرار الديمقراطية، وإجراء انتخابات رئاسية تعددية؛ فاستدعى بوانيه الدكتور حسن وطارا، الذي كان حينها نائب رئيس صندوق النقد الدولي، ونصبه كأول رئيس وزراء للبلاد؛ ليضمن أصوات قبيلته الجيولا المسلمة، ويكسب تأييد الشمال المسلم؛ ما مكنه من كسب أول انتخابات رئاسية نهاية 1990م.

وظلت باريس هي المسيطر على القصر الجمهوري، فأعدت هانري كونان بيديه- رئيس البرلمان وقتها- ليتسلم الرئاسة بعد وفاة بوانييه العجوز عام 1993م، ولم تغب حتى عن الانقلابات، فتحالفت مع رئيس أركان الجيش الجنرال الكاثوليكي (روبرت جيه) بعد انقلابه نهاية عام 1999م، فيما منحت بيديه حقَّ اللجوء السياسي.

وبعدها بعدة أشهر أعلنت تأييد أستاذ التاريخ لوران جباجبو في انقلابه على الرئيس جيه، الذي أعلن فوزه في الانتخابات الرئاسية المزورة التي جرت أوائل عام 2000م، ويسرت للأخير التنسيق مع قيادات الدرك (الجيش العاجي) والشرطة لدعم انقلابه، الذي تم بسرعة ملحوظة مع دعم القوات الفرنسية التي بادر جباجبو لإعلان الولاء لبلادها.

ورغم عناد جباجبو ورفضه منح المسلمين أية مزايا تمتص غضبهم، إلا أن فرنسا لم تتأخر عن دعمه عسكريًّا ولوجيستيا، وتكفلت بإسكات صوت المجتمع الدولي، والحصول على قرار أممي بحفظ السلام في ساحل العاج، مع حقِّ التدخل العسكري إذا احتاجت ذلك؛ للتغطية على المذابح الجارية بحقِّ المسلمين هناك؛ لوأد تمردهم بالقوة.

من ناحية أخرى، وسَّعت فرنسا من أعمال المنظمات التنصيرية في الشمال بدعوى مساعدة المسلمين؛ لوقف حركة تمدد الإسلام إلى الجنوب الإفريقي، وإجهاض الثورات المتتالية التي تواصلت حتى استطاعت في سبتمبر سنة 2002م الانقلاب على جباجبو، والسيطرة على نصف البلاد، وكانت على وشك السيطرة على العاصمة ياموسوكرو، إلا أن القوات الفرنسية حالت دون ذلك.

ودخلت البلاد كلها في أتون الحرب الأهلية، فتحركت باريس لتوفير الأمن والاستقرار الاقتصادي لنحو 20 ألف فرنسي يستوطنون ساحل العاج، وجمعت أطراف النزاع للاتفاق على هدنة عسكرية، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، يتولى المسلمون فيها رئاسة الوزراء، وزارتيّ الداخلية والدفاع، مع إقرار رئاسة جباجبو حتى موعد انتخابات 2005م، التي يكون من حقِّ جميع العاجيين خوضها.

ولم يرض أنصار جباجبو بالاتفاقية التي عدُّوها استسلامًا للشماليين، وخرق الأخير وقف إطلاق النار في نوفمبر 2004م، وقصف- بواسطة طائرتين قالت فرنسا إنهما صناعة صهيونية- مواقع للقوات الشمالية وآخر تابعًا للقوات الفرنسية، بينما خرجت مسيرات جماهيرية تطلب طرد القوات الفرنسية، والتنديد بسياسة الرئيس جاك شيراك، وحمل المتظاهرون أعلامًا أمريكيةً وصورًا للرئيس الأمريكي جورج بوش.

صراع أمريكي فرنسي



الرسالة التي أفصح عنها نحو 10 آلاف متظاهر يحملون الأعلام الأمريكية، أكدت نجاح أمريكا في فرض نفسها على الملعب العاجي، بعدما اندفعت إليه الأخيرة بقوة لمعاقبة تمرد باريس على خطة واشنطن؛ لتقسيم تركة العراق قبيل غزوه في مارس 2003م، وتزعم جاك شيراك، وهو آخر رئيس فرنسي بالعهد الديجولي، تجييش الرفض العالمي ضد أمريكا.

واستنكر مسئولو البيت الأبيض أن تتحدث دولة (الكولونيالية) عن حقوق الإنسان الذي تستعبده في غرب إفريقيا، ولم يتوان الرئيس الأمريكي جورج بوش عن القيام بزيارة تاريخية إلى 5 دول إفريقية في يوليو 2003م، من بينها ليبريا وساحل العاج في غرب إفريقيا، بدعوى محاولة انتشالهما من الأزمات السياسية.

وجاء الاهتمام الأمريكي المتزايد ضمن إستراتيجية "الإمبراطورية" بعهد إدارة بوش؛ لتحقيق الأمن القومي الأمريكي بمعناه الشامل، وتأمين الاحتياجات الأمريكية من الطاقة، لا سيما وأن إفريقيا تمتلك ثروة نفطية هائلة، تقدر بنحو 8% من الاحتياطي العالمي الخام، مع إمكانياتها الإستراتيجية التي تكفل التوسع العسكري لأمريكا عبر العالم، هذا غير أن القارة تعتبر سوقًا كبيرة، إذ يبلغ عدد سكانها نحو 750 مليون نسمة.

ويدعم التوجه الأمريكي سياسات الكيان الصهيوني الذي ينشط بساحل العاج منذ عام 1962م، لأهمية موقعه الإستراتيجي، ولفتح أسواق تبادل تجاري وزراعي مع الكيان، غير مشاركة الموساد في تصفية وجهاء المسلمين وزعمائهم، حتى تبقى السيطرة لحلفائهم من الأقلية النصرانية، وللانتقام من مؤيدي حزب الله اللبناني المنتشرين بين الجالية اللبنانية في ساحل العاج، والمقدرة بنحو 150 ألف شخص.

وردت باريس بشكل قوي ومباشر على تحرشات جباجبو، وما صاحبها من رسائل أمريكية وصهيونية، وذلك بتدمير كامل لقوة جيش الجنوب الجوية، وكشفت عن مقر تنصت تابع للموساد، وقامت بطرد 46 خبيرًا صهيونيًّا عسكريًّا، مع رسالة شديدة اللهجة للحكومة الصهيونية بوقف العبث في ساحل العاج، في إشارة إلى إنها لن تقبل المشاركة في مستعمرتها القديمة والحالية.

المعطيات الجديدة

إلا أن المشهد الحالي تغيَّر بفعل عدة عوامل، ليصبح في صورته الحالية من التوافق الفرنسي الأمريكي، أولها تواصل عناد جباجبو وإصراره على المضي في الحرب الأهلية التي أدَّت إلى تدهور كبير في الأمن والاستقرار الاقتصادي لساحل العاج؛ ما ألَّب عليه الجميع، وفي مقدمتهم فرنسا، ليتم إجباره على قبول اتفاقية واجادوجو نهاية عام 2007م.

الأمر الآخر هو تولي نيكولا ساركوزي رئاسة فرنسا في مايو 2007م، وهو يميني من أصل يهودي؛ ما جعل الشانزليزيه أطوع في التوافق مع سياسات البيت الأبيض، وجمع مختلف اللاعبين ضد جباجبو الذي ماطل كثيرًا في إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية؛ لكي يبقى في السلطة حتى الآن بصرف النظر عن شرعية حكمه.

ويصاحب التوتر الأمني تدهور شديد يكاد يعصف بالبقية من اقتصاد البلاد، ما خفّض إنتاجها من الكاكاو إلى 1.2 مليون طن فقط، أي نحو نصف الكمية السابقة من المادة الأولية لصناعة الشيكولاتة، والتي باتت صاحبة الكلمة الأولى في إدارة اقتصاديات الحرب ووجهتها، بعد الأزمة الاقتصادية التي هزت موازنات الدول الكبرى، ودفعتها شرقًا وغربًا لمحاولات تعويض خسائرها، لا سيما وأن موقع ساحل العاج يجعلها بوابة إلى أسواق "الاتحاد الاقتصادي والمالي لإفريقيا الغربية" و"المجموعة الاقتصادية لبلدان غرب إفريقيا إيكواس".

وتدفع أسباب أخرى فرنسا إلى عدم التمسك بأستاذ التاريخ لوران جباجبو؛ فهو مسيحي إنجيلي، وماركسي سابق، كما أنه أول رئيس يُضعف نفوذ "الأب الجديد" (Papa Nouveau) رجل الدين الكاثوليكي الأهم في ساحل العاج، والذي احتل مكانة بارزة في صدر المشهد الرسمي منذ الرئيس بوانييه، وكان يدعو إلى توحيد البلاد بالتوافق مع الفرنسيين، وقد أرجع البعض ذلك إلى أن زوجة جباجبو قريبة من "البنتكوتيين" المتأثرين بقوة بالهيمنة الأمريكية، ومعادية للاتجاه التوفيقي بين المسيحية والإحيائية، والأخير أحد أهم أسباب توسيع قاعدة التنصير في إفريقيا.

بديل مسلم مدجن!



وتعلم الدول الغربية أن دولة الرئيس جباجبو على وشك الانهيار رغم تأييد الجيش له؛ فقد فشل على مدار 8 سنوات في قمع الانقلاب الذي نجح من البداية في السيطرة على أسلحة ثقيلة، بما في ذلك الطائرات المروحية والمدرعات؛ ما دفع فرنسا إلى رفض طلب جباجبو بالتدخل لقمع الانقلاب وفق اتفاقية الدفاع المشترك.

في المقابل قدَّم اتحاد المعارضة في الشمال رسائل مقبولة غربيًّا حين شكل جبهته السياسية نهاية عام 2002م وأطلق عليها اسم الجبهة الوطنية لساحل العاج برئاسة جيوم سورو (مسيحي)، وأحسنوا في التعامل مع المدنيين، فلم يقدموا على ارتكاب مذابح أو قتل للمدنيين، وأفرجوا عن وزير الرياضة الذي كان موجودًا بالمناطق التي سيطروا عليها؛ ما أبرز صورة التسامح الإسلامي مع غيرهم.

كما حققت ساحل العاج- بفضل المسلمين- تقدمًا اقتصاديًا كبيرًا قبل الحرب الأهلية، وبلغ معدل النمو حوالي 6%، وتفوقت البلاد في إنتاج الكاكاو حتى بلغ 40% من الإنتاج العالمي، لذا فأفضل خياراتها هو تأييد استلام الحسن وطارا للحكم، مع سمعته الجيدة في مجال الإدارة الاقتصادية، وطواعيته لتنفيذ السياسات الغربية لا سيما الأمريكية، فهو الصديق الأقرب لواشنطن بساحل العاج، منذ كان يعمل في صندوق البنك الدولي بتسعينيات القرن الماضي.

الأمر الذي سيكون سببًا في امتصاص غضب الشمال المسلم والمعارضة، مع ضمان استمرار تنفيذ الأجندة "الاستعمارية"، خاصة استمرار تدفق الكاكاو من مزارعي الشمال إلى ميناء أبيدجان في الجنوب، ومنه إلى المصانع الغربية، فضلاً عن الاستغلال الأهم في تنفيذ المخططات الإستراتيجية للاعبين الأهم فرنسا وأمريكا والكيان الصهيوني.

الدعوات تتوالى من ساحل العاج إلى استخدام القوة ضد جباجبو؛ لإجباره على التنحي، ولاعبو الغرب يدرسون كيفية تحقيق أفضل النتائج بأقل خسائر ممكنة.

"مراعي" أبيي ونفطها.. قنبلة السودان الموقوتة

19-12-2010
 

كتب- عصام فؤاد:

تتسارع وتيرة المخطط الداعي إلى انفصال السودان والمنادي بالحرب كذلك، فبعد أن ترك الوطن العربي والإسلامي قضية السودان؛ لتديرها المصالح الأجنبية و"الصهيوأمريكية"، بات لتحركات الملف السوداني وجهة واحدة هي كيفية تحقيق الانفصال، ولو بإهمال وتأجيل الملفات العالقة، ذات الحساسية الكبرى، رغم أن كلاًّ منها كفيلٌ بتفجير الحرب الأهلية من جديد.

شعار التأجيل الذي ترفعه الحركة الشعبية الجنوبية بإيعازٍ من الرعاة الأمريكان، لا يتناسب مع خطورة الملفات العالقة الشائكة، مثل مشكلة الجنسية لنحو 1.5 مليون جنوبي، يسكنون الشمال، ومشكلة ترسيم الحدود في كلِّ المناطق المتنازع عليها بين الطرفين بالنيل الأزرق وجنوب كردفان وأبيي، والأخيرة تعتبر النقطة الأكثر سخونةً واستعدادًا للحرب؛ نظرًا لاعتباراتها الثقافية والاجتماعية، وحتى الاقتصادية.

وتقع أبيي بالمنطقة الحدودية بين الشمال والجنوب في غرب منطقة كردفان، ويحدها شمالاً المناطق التي تسكنها قبيلة المسيرية، وجنوبًا بحر العرب، وهو نهر صغير يفصل بين بعض مناطق الشمال والجنوب السودانيين، ويقطنها قبائل من العرب، وأكبرها المسيرية والزريقات، وقبائل من الزنوج، وفي مقدمتها الدينكا.

وكانت المنطقة جزءًا من ولاية بحر الغزال الجنوبية، قبل أن يتم ضمها إلى ولاية جنوب كردفان عام 1905م، ومنذ ذلك الحين وهي تتبع إداريًّا المناطق الشمالية، قبل أن تطالب الحركة الشعبية الجنوبية بالولاية عليها، بدعم من الإدارات الغربية، ما حوَّل أبيي إلى منطقة نزاع بين الشمال والجنوب.

وثائق بريطانية

وتؤكد التقارير البريطانية، إبان الاحتلال، أن قبائل المسيرية هي الأقدم بأبيي، التي عرفت أولاًَ رحلاتهم إليها، وإقامتهم بها نحو سبعة أشهر سنويًّا؛ بحثًا عن الماء والكلأ لماشيتهم، ويؤكد الناظر حريكة عز الدين، أحد قادة المسيرية، أنهم سكان أصليون في هذه المنطقة، وحدودهم مع منطقة بحر الغزال جنوب بحر العرب تصل إلى 40 كيلو مترًا.

وحسب تصريحات عز الدين لفضائية (الجزيرة)، فإن دينكا نقوك جاءوا من بحيرة نوح من أعالي النيل بالجنوب، واستقروا في ولاية بحر الغزال جنوب أبيي، وحدثت بعض المشكلات، فطلب مدير مديرية بحر الغزال من مدير كردفان ضم هذه المنطقة جنوب بحر العرب بـ40 كيلو مترًا إلى مديريته، بحكم أنها أقرب إلى جنوب كردفان في العام 1905م.

ويتابع قائلاً: وبما أن هذه المنطقة ليست منطقة زراعة وسكنَى، فقد طلب ناظر دينكا نقوك من ناظر المسيرية أن يسمح لهم بأن يقطعوا النهر شمالاً في داخل أراضي المسيرية بكردفان، وفعلاً سمحوا لهم، وبالتالي دخل الدينكا هذه الأرض ليست لأنها ملكهم، ولكن لأن المسيرية هم الذين استضافوهم.

تعايش سلمي

ووثَّقت مذكرات الاحتلال البريطاني حرص قبيلة الدينكا على أن تكون إلى جانب المسيرية في شمال السودان، حتى إن ناظر الدينكا "كوال أروب" عندما خيَّرته الإدارة البريطانية بين البقاء في الشمال أو الالتحاق بالجنوب في عام 1934م، فضَّل البقاء في الشمال على الجنوب، وعندما مات الناظر كوال وخلفه ابنه "دينق مجوك"، طرح عليه الاحتلال مرةً أخرى أمر العودة إلى الجنوب عام 1951م، فاختار بدوره البقاء في الشمال.

ويرى المراقبون أن المنطقة ظلَّت عبر تاريخها الطويل نموذجًا للتعايش السلمي بين القبائل الإفريقية والعربية، التي ترعى هناك، وظل التعايش أولوية بالنسبة لزعماء المسيرية والدينكا، مثل بـ"أبو نمر" ناظر المسيرية، "ودينق مجوك" سلطان الدينكا، اللذين عملا لعقود طويلة على احتواء أي نزاعٍ وحلِّ المشكلات بطريقة أهلية.

 ويؤكدون أن شريكي المنطقة يمكن أن يحلوا مشكلاتهم لو تركتهم دعاوى السياسيين ومحاولات التفريق العصبية، والدليل على ذلك تعايشهم منذ العام 1905م، وكانت المشكلات الفردية يحلها نظار القبيلتين لإدراكهما المصالح المتبادلة بينهما، وتلك حقيقة تؤكدها عوامل الجغرافيا بالمنطقة، وخصوصية الرعي كحرفةٍ تحتاج براحًا للحركة والتنقل المستمر.

وكان الأمير أبو نمر في النصف الأول من القرن الماضي يجتمع كلَّ عامٍ مع نظار الدينكا؛ لبحث كلِّ المشكلات التي حدثت في الخريف، وإذا كان ثمة مشكلات يتم حلها، بهذا يتم تهيئة جوٍّ آمن للرعاة الداخلين والخارجين من بحر العرب.

وحرص دينق مجوك، سلطان الدينكا، الذي تسلَّم زعامة قومه في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، على نسج علاقات عميقة وقوية مع القبائل العربية، بل إنه اختار طوعًا الانضمام إلى الشمال، وسعى دائمًا للتحرك ضمن سودان موحَّد.

وشهدت العلاقات العربية الإفريقية باكورة التغيرات في فترة الرئيس السوداني الأسبق، إبراهيم عبود، ما بين العام 1958م، والعام 1964م، الذي حاول إنهاء مشكلة الجنوب عبر العمل العسكري، مع جهوده الكبيرة لفرض الأسلمة والتعريب هناك، وحينها بدأ عدد من أبناء دينكا أبيي في الالتحاق بالحركات المسلحة الجنوبية، وبات عدد كبير من أبناء المنطقة قياداتٍ في الحركة الشعبية، وفي مقدمتهم زعيم الحركة الهالك جون قرنق.

دعاوى الانفصال

واختفت اليوم اجتماعات التصالح والتعايش بعد رحيل القائدين العظيمين أبو نمر ومجوك، فيما يقف أبناء الأخير وأحفاده اليوم مع خيار الانفصال، ويريدون العودة إلى الجنوب، بل إن كثيرًا منهم باتوا قياداتٍ في الحركة الشعبية لتحرير السودان.



وفي المقابل فإن القبائل العربية (المسيرية والرزيقات) القاطنة في تلك المنطقة هم حلفاء إستراتيجيون لكلِّ الحكومات الوطنية بالسودان منذ الاستقلال، وظلَّت تلك القبائل تمثل حائط صدٍّ قوي في وجه حركات التمرد الجنوبية المسلحة؛ لذا فهنالك عدد كبير من قيادات الجيش الوطني السوداني من أبناء تلك القبائل.

ويوضح مختار أبو نمر، أمير المسيرية الآن ونجل مؤسس التعايش، أن الوضع ليس كما هو في السابق، فقد اتخذ الصراع بين القبيلتين بعدًا جديدًا شكَّلته حسابات السياسة، لتتحول طبيعة المشكلات في المنطقة- التي كانت غالبًا تخضع لقانون القبيلة- إلى صراع مسلَّح بين قبيلة المسيرية والجيش الشعبي لتحرير السودان التابع لحكومة الجنوب، وبعد التعايش المشترك، بات كلُّ طرف يدَّعي سيادته التاريخية على المنطقة، ويصف الآخرين بالغرباء.

وكما هي نقطة خلاف حالية قبيل الاستفتاء على تبعيتها للشمال أو الجنوب، فقد كانت كذلك في اتفاقات السلام بين الجانبين عامي 2004 و2005م، قبل الاستقرار على ترتيب الوضع القائم حاليًّا في أبيي؛ بإقرار أنها جسر بين شمال السودان وجنوبه، وتمَّ النص على أن الإقليم يشمل تسع مشيخات من قبيلة دينكا نقوق، تم تحويلها من بحر الغزال إلى كردفان في العام 1905م، مع احتفاظ قبيلة المسيرية العربية والجماعات الرعوية الأخرى بحقوقها التقليدية في الرعي والتحرك عبر أراضي المنطقة.

ونالت أبيي وضعًا إداريًّا خاصًّا خلال فترة السنوات الست الماضية؛ فكان المقيمون فيها مواطنين بكلٍّ من غرب كردفان وبحر الغزال، ويتم تمثيلهم بالمجالس التشريعية للولايتَيْن، بينما يدير أبيي مجلسٌ تنفيذي محلي ينتخبه المقيمون فيها.

ونصَّت الاتفاقات على إجراء استفتاء منفصل في أبيي بالتزامن مع استفتاء جنوب السودان يناير 2011م، لتخيير سكان أبيي بين الاحتفاظ بوضع إداري خاص في الشمال، أو أن تكون أبيي جزءًا من بحر الغزال، وبالتالي تابعة للجنوب وتلاحقه في مصيره سواء في الوحدة أو الانفصال.

محكمة لاهاي

 وكما عانت قبائل تلك المنطقة من آثار الحروب الأهلية، فقد تعددت عليها الأزمات السياسية والأمنية حتى وقت قريب، وكان أقربها أواسط عام 2008م الماضي، التي كادت أن تعصف باتفاقية (نيفاشا) للسلام، قبل إقرار شريكيّ الحكم بالسودان، اتفاقًا لبسط الأمن بالمنطقة، وعرض ملفها على هيئة دولية متخصصة لترسيم الحدود النهائية لأبيي، وطرح الموضوع على المحكمة الدولية في لاهاي.

وبالفعل، قضت المحكمة الدولية- أواخر يوليو عام 2009م- بإخراج المنطقة من حدود دارفور وكردفان من حدود أبيي وضمها إلى الشمال، بمجمل ما يتراوح ما بين 10 إلى 12 ألف كيلو متر مربع من 16 ألفًا، هي مساحة أبيي الكاملة، على أن يكون الرأي الفصل في المنطقة الباقية، وتبلغ ما بين 4 إلى ستة آلاف كيلو متر مربع، للاستفتاء الذي تم تأجيله، وهو الذي سيقرر أن يقضي في تبعية المنطقة لشمال السودان أو جنوبه.

وقررت ضم قبائل المسيرية إلى أبيي، وبالتالي أصبح لأبنائها حقُّ التصويت في الاستفتاء؛ وذلك بعد أن رجعت المحكمة إلى قانون الاستفتاء الخاص بالمنطقة، "بأن حقَّ التصويت لقبائل دينكا نقوك، إضافةً إلى السودانيين الآخرين المقيمين بالمنطقة"، وأكدت أن المسيرية وإن كانوا رُحَّلاً يتنقلون شمالاً وجنوبًا، إلا أن أسلوب معيشتهم المترحل لا يسلبهم حقهم في ملكية أراضيهم، التي عاشوا فيها مئات السنين.

وبالطبع فأبناء المسيرية- وهم قرابة مليوني نسمة- يمثلون قوة تصويتية هائلة لصالح الوحدة، وهو ما ترفضه حكومة الجنوب التي تريد فصل المسيرية عن أبيي؛ حتى لا يختل التوازن التصويتي في غير صالحها.

وتقترح الحكومة السودانية أن تبقى أبيي منطقةً تكامليةً بين الشمال والجنوب تربط شعب السودان، في حال الوحدة أو الانفصال، مؤكدةً رفضها القاطع لضم أبيي كاملةً إلى الجنوب، مهما كانت الحوافز والإغراءات المالية التي تعدُّ بها الحكومات الغربية.

وأعلنت رفض عرض أمريكي بإقامة استفتاءي الجنوب وأبيي في موعدهما– مع حرمان أبناء المسيرية من الاقتراع- مقابل رفع اسم السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، ورفع العقوبات الاقتصادية عنه!.

حرب المرعى والنفط

وفيما تتواصل مشكلة أبيي حول أصحاب حق التصويت، التي أجلت الاستفتاء إلى موعد غير مسمى، فثمة آراء كثيرة تتوقع أن تكون المنطقة سببًا في عودة النزاع المسلَّح مرةً أخرى بين الشمال والجنوب، لا سيما أن حقول البترول في المنطقة تدفع الحركة الشعبية إلى تأجيج الصراع حولها، إذ تضعه حكومة الجنوب في مقدمة مواردها الاقتصادية حال الانفصال.

أما قبائل المسيرية فهم يرون أن ضم أبيي إلى الجنوب أو تقسيم البلاد إعلان حرب صريح عليهم، وحكم بالموت على ماشيتهم التي هي مصدر رزقهم، ما يؤكد أن المخطط الذي تتبناه الحركة الشعبية لفرض الانفصال بالقوة الجبرية على أهل الجنوب والسودان كله، لا تحمل بشائره سوى إنذارات حروب متعددة الأطراف، داخل السودان وخارجه.

مسلمو ساحل العاج.. متمردون أم مقاومون؟

14-12-2010 

كتب- عصام فؤاد:

"تأجيل الانتخابات الرئاسية في ساحل العاج"، خبر اعتادت وكالات الأنباء إذاعته منذ نحو خمس سنوات، ورغم اختلاف المبررات التي يستند إليها التأجيل في كل مرة، إلا أن الهدف من ورائها دائمًا واحد، وهو استبعاد الأغلبية المسلمة عن استلام حكم البلاد أو حتى المشاركة في تسييره.

ويستحق مسلمو ساحل العاج الاعتذار مرتين، الأولى حين تركهم العرب والمسلمون فريسة لعمليات التنصير والتذويب القهري للهوية الإسلامية برعاية الاستعمار الفرنسي الكاثوليكي، ثم تجاهلوا المذابح التي راح ضحيتها آلاف المسلمين في عهد الرئيس الحالي لوران جباجبو.

 والثانية حين انساق الإعلام العربي وراء الادعاءات الغربية ضد المسلمين، والتي وصفتهم بالمتمردين حين اضطروا لرفع السلاح لوقف عمليات القتل الدائرة في صفوفهم على الهوية، ولتحقيق أبسط حقوقهم المدنية والسياسية في أوطانهم.

 أغلبية مضطهدة

 ويشكل المسلمون حوالي 60% من عدد سكان ساحل العاج البالغين نحو 20 مليون نسمة، ويستقر غالبيتهم في الشمال، ورغم كونهم الأغلبية في البلاد، إلا أنهم لاقوا أبشع صور الاضطهاد؛ سواء في دينهم أو أموالهم وأنفسهم، منذ سقوط دولة القائد المسلم ساموري توري، ودخول الاحتلال الفرنسي أواخر القرن التاسع عشر.

 وبعد استقلال البلاد عام 1960م، اختلفت صور الاضطهاد من حيث اللين والشدة، فاقتصرت فترة حكم الرئيس الأول للجمهورية هوفي بوانيه على الحرب الدينية ضد الإسلام الصحيح، وكان بوانيه عميلاً فرنسيًّا بامتياز، مهمته تأمين مصالح باريس السياسية والاقتصادية وحتى العسكرية، وقبل ذلك نشر الكاثوليكية التي تحمل فرنسا رايتها وترعى شئونها.

 وتنامى الوعي السياسي للعاجيين؛ خاصة بعد سقوط الشمولية مع انهيار الاتحاد السوفيتي، ما أعقبه تحركات شعبية ومظاهرات طلابية، لطلب إقرار الديمقراطية وإجراء انتخابات رئاسية تعددية.

وأعلن بوانيه الاستجابة للرغبات الجماهيرية وإجراء انتخابات رئاسية نهاية 1990م، ولكي يواجه المنافسين الأقوى أستاذ التاريخ د. لوران جباجبو رئيس الجبهة الشعبية الإيفوارية ذات التوجهات الاشتراكية، ورئيس البرلمان كونان بيديه؛ قام باستحداث منصب رئيس الحكومة، وعهد به إلى المسلم الشمالي حسن أوطارا الذي كان حينها نائب رئيس صندوق النقد الدولي، وذلك ليضمن أصوات قبيلته الجيولا المسلمة ويكسب تأييد الشمال المسلم.

وبعد فوزه بالانتخابات أعطى بوانيه صلاحيات مطلقة لرئيس حكومته أوطارا، فاستغلها الأخير في عمل إصلاحات اقتصادية واسعة، واستغل موارد البلاد الطبيعية في تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وحازت ساحل العاج 40% من حصة إنتاج الكاكاو بالعالم، وارتفع معدل النمو إلى 6%، فيما بلغ متوسط دخل الفرد سنويًّا نحو 2000 دولار.

وبعد وفاة بوانيه سنة 1993م، دعمت فرنسا رئيس البرلمان الكاثوليكي كونان بيديه لتولي رئاسة البلاد، لحين إجراء الانتخابات التي أعلن نفسه مرشحًا لها، ولكي يتجنب الخسارة أمام الزعيم المسلم ورئيس الوزراء حسن أوطارا، ابتدع ما يعرف حاليًّا في الأدبيات السياسية بـ"الذاتية العاجية"، والتي لا تعطي الحقوق السياسية كاملة، إلا للمواطنين "أنقياء" الجنسية، والهدف هو استبعاد أوطارا من خوض الانتخابات الرئاسية بدعوى أن أمه تحمل جنسية بوركينا فاسو.

الانقلاب الأول

واستمر حكم بيديه ست سنوات عجاف، تدهورت فيها الأحوال الاقتصادية والاجتماعية خاصة بالشمال المسلم؛ وذلك نتيجة الفساد وتفشي المحسوبية وقمع المعارضة، فجاء الانقلاب الأول نهاية 1999م على يد رئيس أركان الجيش الجنرال روبرت جيه وبدعم شعبي كبير في الشمال والجنوب، ما أجبر بيديه على الهروب إلى باريس التي منحته حق اللجوء السياسي.

وشهدت البلاد في رئاسية جيه المؤقتة فترة هادئة عسكريًّا وساخنةً سياسيًّا، بما حفلت به من مناورات للتحايل على حقوق مسلمي الشمال في ترشيح حسن أوطارا، باستدعاء بدعة الذاتية العاجية من جديد، وهو ما تم انتخابات أكتوبر سنة 2000م، والتي شهدت تلاعبًا وتزويرًا فاضحًا، حتى يفوز جيه برئاسة ساحل العاج.

ولم يتول الرئاسة بعد الانتخابات سوى يوم واحد، قبل أن يدعو منافسه لوران جباجبو إلى انتفاضة شعبية، وقام بالتنسيق مع قيادات الدرك (الجيش العاجي) والشرطة لدعمه في إسقاط جيه وتنصيبه رئيسًا البلاد؛ وهو ما تم بسرعة ملحوظة مع دعم القوات الفرنسية التي بادر جباجبو لإعلان الولاء لبلادها.

وطالب الزعيم المسلم حسن أوطارا بإعادة الانتخابات التي تمت بعيوب دستورية، إلا جباجبو تحايل على الدعوة، ووعد المسلمين بإجراء تعديلات دستورية وإصلاحات اقتصادية، تمكن كافة العاجيين من خوض الانتخابات، وترفع المستوى المعيشي لأهل الشمال.

وحظيت وعوده بموافقات مسلمة، لم يستثمرها جباجبو في تحقيق الوحدة الوطنية، ولكنه تحايل للالتفاف عليها، ورفض إلغاء مبدأ الذاتية العاجية، ليستبعد أوطارا من الانتخابات التشريعية، خاصة بعد النجاح الكبير الذي حققه حزب التجمع الجمهوري بقيادة أوطارا في الانتخابات البلدية.

انفصال الشمال

وأمر جباجبو بتشكيل حكومة جديدة استبعد الشماليين منها، وكانت القاضية في سبتمبر سنة 2002م حين سرح أكثر من 800 جندي وصف ضابط من الجيش معظمهم من مسلمي الشمال؛ ما دفع الشماليين لإعلان العصيان والانقلاب.

ونجحوا في زمن قياسي من السيطرة على نصف البلاد، وأهم مدينتين وهما بواكيه وكورجوهو ذات الأغلبية المسلمة، وكانوا على وشك السيطرة على العاصمة ياماساكرو، إلا أن القوات الفرنسية حالت دون ذلك.

وقد أعلن قادة الانقلاب تشكيل جبهة سياسية أطلق عليها اسم الجبهة الوطنية لساحل العاج برئاسة جيوم سورو (مسيحي)، وإعلان الضابط (شريف عثمان) قائدًا للجناح العسكري للجبهة.

وطالب الشمال المسلم بتعديل الدستور خاصة المادة 35 بشأن هوية المرشحين، وإجراء انتخابات وطنية، يشارك فيها الجميع دون تمييز، مع وضع حد لسيطرة الجنوبيين على شئون البلاد، وتجاهل الأغلبية المسلمة.

وواجه جباجبو طلبات الشمال المسلم بمزيد من العنف والتنكيل، وعاونته القوات الفرنسية في ضرب القوات الشمالية، فيما شكل جباجبو ميليشيات عسكرية باسم (كتائب الموت)، من أفراد حرسه الخاص، وأبناء قبيلته (البيتي)، فارتكبت أبشع المذابح في صفوف المسلمين، وحاولت اغتيال الزعيم أوطارا، إلا أن أنصاره استطاعوا تهريبه ليحتمي بإحدى السفارات الغربية، بعد قتل نحو 50 مسلمًا من معاونيه.

فرنسا والصهاينة

وتكفلت باريس بإسكات صوت المجتمع الدولي، والحصول على قرار أممي بحفظ السلام في ساحل العاج مع حق التدخل العسكري إذا احتاجت ذلك، فيما تجاهل الإعلام ذبح المسلمين، ولم يهتم بتناول الأزمة العاجية، إلا لإبراز معاناة الجالية الفرنسية، التي بلغت نحو 20 ألف فرنسي؛ نتيجة تدهور الأوضاع الأمنية والاقتصادية.

وكان لضغط تلك الجالية الدور الأكبر في تحرك فرنسا لجمع أطراف النزاع على مائدة التفاوض، والاتفاق في مايو 2003م على هدنة عسكرية وتشكيل حكومة وحدة وطنية، يتولى المسلمون فيها رئاسة الوزراء وزارة الداخلية ووزارة الدفاع، مع إقرار رئاسة جباجبو حتى موعد الانتخابات الرئاسية في 2005م، التي يكون من حق جميع العاجيين خوضها.

ولم يرض أنصار جباجبو بالاتفاقية التي عدوها استسلامًا للشماليين، وتحايل الأخير على تشكيل الحكومة الوطنية، قبل أن يخرق وقف إطلاق النار في نوفمبر 2004م، حين قامت طائرتان حكوميتان بقصف مواقع القوات الشمالية وموقع تابع للقوات الفرنسية في مدينة بواكيه شمالي البلاد.

وصاحب قصف الموقع الفرنسي مسيرات جماهيرية لطلب طرد القوات الفرنسية، والتنديد بسياسة الرئيس الفرنسي جاك شيراك، فيما حمل المتظاهرون أعلامًا أمريكيةً وصورًا للرئيس الأمريكي جورج بوش.

وزاد من القلق الفرنسي نجاح الكيان الصهيوني في استمالة جباجبو، بعد إمداده بأسلحة عسكرية متقدمة، وايفاد خبراء صهاينة لتدريب قواته وحرسه الرئاسي، لضرب المسلمين في الشمال، فضلاً عن دور جهاز الموساد في تصفية وجهاء المسلمين وزعمائهم، حتى تبقى السيطرة لحلفائهم من الأقلية النصرانية، وللانتقام من مؤيدي حزب الله اللبناني المنتشرين بين الجالية اللبنانية في ساحل العاج، والتي تقدر بنحو 150 ألف شخص.

وكان الرد الفرنسي قويًّا ومباشرًا بقصف وتدمير قوة الجيش الجوية، والكشف عن مقر تنصت تابع للموساد، وطرد 46 خبيرًا صهيونيًّا عسكريًّا، مع رسالة شديدة اللهجة للحكومة الصهيونية بوقف العبث في ساحل العاج.

كما تم التنسيق مع البيت الأبيض لضمان "الحقوق" الفرنسية في ساحل العاج التي تعتبرها باريس قلعة الفرانكوفونية، على أن تؤمن فرنسا حاجة أمريكا الاقتصادية في البلاد، وتراعي مصالحها الحيوية في شرق ووسط إفريقيا.

ومهدت الجفوة مع فرنسا الطريق أكثر أمام الانتشار الصهيوني الذي تفشى في باقي المؤسسات من الزراعة إلى التجارة وحتى معاهد التكنولوجيا والأبحاث، ورفض جباجبو المحاولات الدولية للتهدئة، خاصة من دول الجوار التي يعيش قطاع كبير من شعبها على الأموال التي تحولها الأيدي العاملة في زراعة الحقول العاجية أو في صناعات البن والكاكاو.

وارتكن في تسليح قواته على الكيان الصهيوني والعصابات عابرة الحدود التي تذكي الصراعات المحلية والإقليمية في سبيل سرقة أحجار الماس وخامات النحاس والكوبالت واليورانيوم وتهريبها، مقابل توفير المرتزقة وشحنات سلاح لأطراف الصراع كافة، بما يضمن استمراره.

اتفاقية واجادوجو

وتعددت المؤتمرات والاتفاقيات بين جباجبو وقادة الشمال برعاية دولية وإقليمية، وكان الأخير يتحايل في كل مرة لنقض الاتفاق، وإيثار مصلحته الشخصية ومصالح القبائل النصرانية المهيمنة على السلطة والثروة والمناصب العليا في قوات الجيش والشرطة.

ومع تواصل الحرب الأهلية تيقن جباجبو من عجزه عن دحر جيش الشمال، فاستجاب للضغوط الإقليمية بوقف القتال وتوقيع اتفاقية بالعاصمة البوركينية واجادوجو نهاية عام 2007م، والتي تم بموجبها تنصيب جيوم سورو رئيسًا للوزراء، على أن يتم انسحاب المسلحين إلى ثكناتهم، ودمج جنود الشمال والجنوب في جيش وطني، تمهيدًا لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية في يونيو عام 2008م.

وتحايل جباجبو بكل الطرق لتعطيل الانتخابات، وواصل تشدده في استبعاد ما يقرب من 2 مليون عاجي مسلم من حق التصويت، بعد أن أدرك استحالة الاستجابة لمطالبه السابقة بإلغاء إدراج نحو 6 ملايين مسلم من الاقتراع بحجة أصولهم البوركينية، وذلك في سبيل تغيير المعطيات الحالية التي تؤكد أن الانتخابات القادمة لن تكون في صالحه.

وتعددت حجج التأجيل من موعد لآخر، حتى قام جباجبو أواسط فبراير الماضي بإقالة حكومة جيوم سورو وحل اللجنة الانتخابية، ما تبعه احتجاجات شعبية واسعة صاحبها اعتداء الجيش العاجي على المتظاهرين وإثخان صفوفهم بالقتلى والجرحى، قبل الإعلان عن تأجيل جديد للانتخابات التي كانت مقررة في شهر مارس الماضي.

وكشف وزير الدفاع نهاية الشهر عن حجة جديدة هي طلب نزع السلاح الكامل من جنود الشمال؛ الأمر الذي رفضه الشماليون، وأكدوا التزامهم بالاتفاق السابق الذي يقضي برجوعهم فقط إلى ثكناتهم حتى يتم إجراء الانتخابات قبل دمج من تنطبق عليه شروط التجنيد في الجيش الوطني العاجي.

تدهور اقتصادي

ويأتي عناد جباجبو في ظل تدهور شديد يكاد يعصف بالبقية من اقتصاد البلاد، خاصة مع انتشار الأمراض نتيجة القتل والتهجير؛ ما خفض إنتاج ساحل العاج من الكاكاو إلى 1.2 مليون طن فقط، أي نحو نصف الكمية المنتجة سابقًا، كما توقع صندوق النقد الدولي- قبل أسبوعين- انخفاض معدل النمو الاقتصادي لساحل العاج إلى 3% فقط؛ نتيجة الاضطرابات السياسية وتعرَّض بنية البلاد التحتية لخسائر كبيرة.

ورغم العداء الواضح من جباجبو للمعسكر الفرنسي، تنديده أكثر من مرة بعلاقاتها "الخبيثة مع بعض الدول الإفريقية، ورفضه انتشار القوات الفرنسية بدعم أممي للفصل بين القوات الحكومية والشمالية، إلا أن باريس ترفض التحرك بجدية لإقالته، وتفضل الاكتفاء ببعض المصالح، على أن يأتي رئيس شمالي أو زعيم مسلم يقضي على هيمنة الأقلية النصرانية على سلطات البلاد ومقاديرها.

كما يضمن التوتر الحالي بقاء القوات الفرنسية بحجة حفظ السلام؛ الأمر الذي تشتد إليه حاجة باريس التي يضطرها التوغل الأمريكي والتحرك الشعبي على إخلاء قواعدها العسكرية يومًا بعد يوم، وكان أقربها استرداد السنغال- يوم الرابع من أبريل الجاري- جميع القواعد التي كانت فرنسا تسيطر عليها في السابق.

فيما يغض المجتمع الدولي البصر عن مذابح المسلمين وتتجاهل الأمم المتحدة إجرام جباجبو؛ لارتباط أجندتها بمصالح الدول الكبرى والممولة، وتكتفي ببيان هزيل كل عدة أشهر لطلب الإسراع في الانتخابات، أو الإشراف على مفاوضات جديدة، يتعمد جباجبو نقضها والتهرب من شروطها.

ويبقى الحال في ساحل العاج على ما هو عليه، جنوب يحكمه الكاثوليك بالحديد والنار، وشمال مسلم يرفع راية المقاومة ضد محاولات تنصيره وتغيير هويته الإسلامية، ويطلب حقه الشرعي في إنهاء التمييز الديني ضد أبنائه، وفتح الطريق أمام مشاركتهم في إدارة شئون بلادهم ووطنهم.

ويظل الحاضر الغائب هو الوطن العربي والإسلامي الذي لم تشفع عنده ملايين المسلمين والجالية اللبنانية العربية في ساحل العاج؛ للتدخل ولو عبر القنوات السياسية والقانونية، لوقف نزيف مئات الآلاف من العرب والمسلمين، مفسحًا المجال أمام عدوه الصهيوني لتنفيذ مشروعه في اختراق إفريقيا، والانفراد بساحة جديدة يمارس فيها عداوته الأشد ضد الإسلام والمسلمين.